يأتي العراق في صدارة بلدان العالم من حيث عدد المواقع الأثرية التي تحتضنها أراضيه، إذ يتحدث الأثريون عن وجود نحو 20 ألف موقع أثري تمتد من أقصى الشمال لأقصى الجنوب، فلا تكاد توجد بقعة في البلاد إلا وتحوي مواقع أثرية أو تراثية تعود إلى حقب زمنية مختلفة.
لكن عدد المواقع التي جرى الكشف عنها حتى الآن قليلة جدا ولا يتناسب مع هذا العدد الهائل من المواقع والتلال التاريخية، إضافة إلى أن أغلب تلك المواقع باتت عرضة لعمليات التهريب والتخريب بفعل الإهمال والفراغ الأمني.
ويقول الباحث الأثري فلاح الجباري لوكالة أنباء العالم العربي: «المواقع الأثرية مهملة وبعيدة عن أعين الحراسة الأمنية، ما جعلها عرضة للسرقة والتخريب والاندثار بفعل عوامل الطبيعة»، مشيرا إلى أن ذلك يحدث في الشتاء خصوصا وفي أثناء هطول الأمطار التي تتسبب في انهيار هذه المواقع أو تأثرها بعوامل التعرية.
ويلاحظ الجباري أن مواقع بابل الأثرية فقط هي التي بقيت موضع اهتمام وتركيز من ناحية الحماية ووضع الأسوار الأمنية الخارجية فيما تُركت المواقع الأخرى بلا حماية رغم أنها لا تقل أهمية عن الأولى، «الأمر الذي عرضها ولا يزال للاندثار والسرقة بفعل عوامل الطبيعة والتجاوزات».
وما زالت مئات المواقع الأثرية والتراثية في العراق تفتقر للحراسة الأمنية الكافية، ما قد يعرّضها للنهب تارة والتخريب والإزالة تارة أخرى تحت عناوين مختلفة.
وتضم محافظة بابل أكثر من 800 موقع أثري مسجل رسميا لدى هيئة الآثار والتراث، لكن المعلن عنها والمعروف لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وهي آثار بابل وكيش وبورسيبا وكوثا وسوق دانيال اليهودي، وفق ما يقوله الخبير الأثري عايد الطائي.
ويضيف الطائي أن هناك مواقع أثرية كثيرة مطمورة وبحاجة إلى أعمال تنقيب واستكشافات، مشيرا إلى أن الآثار المكتشَفة حاليا لا تصل إلى ثمانية في المائة من العدد الكلي.
ويقول «مدينة بابل الأثرية هي الوحيدة التي سُلطت عليها الأضواء بعد أن تعرضت سابقا لتجاوزات من قبل النظام السابق والقوات الأميركية عند دخولها العراق، إذ اتخذتها ثكنة عسكرية لعدة سنوات».
وفي عهد النظام السابق، بُني قصر رئاسي توسط المدينة التاريخية، ونُقِش اسم الرئيس السابق على طوب المباني وأحجارها. وتظهر إلى الآن عبارة «من نبوخذ نصر إلى صدام حسين… بابل تنهض من جديد» على جدران تاريخية في آثار بابل.
ونبوخذ نصر (627 – 560 قبل الميلاد) هو أحد ملوك بابل وبناتها التاريخيين وأحد الملوك الكلدان الذين حكموا بابل وأحد أقوى الملوك الذين حكموا بلاد الرافدين.
وبعد سقوط نظام صدام حسين في 2003، تحولت أغلب القصور الرئاسية إلى مقارّ للقوات الأميركية، ومن بينها القصر المُقام في مدينة بابل التاريخية والذي بقي يغلفه الإهمال حتى بعد خروج القوات الأميركية على الرغم من الدعوات إلى جعله متحفا أو شاهدا على حقبة تاريخية من أهم الحقب في تاريخ المدينة.
ضعف الحماية ونقص التمويل
يؤكد المنقب الأثري عامر عبد الرزاق لوكالة أنباء العالم العربي أن العراق «يتربع على أرض هائلة من المواقع الأثرية يربو عددها على العشرين ألف موقع»، لكنه أشار إلى أن هذه المواقع بحاجة إلى اهتمام الحكومة المركزية وتخصيص موارد مالية لوزارة الثقافة والسياحة والآثار من أجل النهوض بهذا القطاع.
ويضيف «بالرغم من وجود قوة أمنية من الشرطة والحراس الأمنيين وانحسار ظاهرة التهريب، لكن هذه المواقع ما زالت بحاجة إلى حماية مشددة». وينوّه إلى أن محافظة ذي قار بجنوب العراق تحوي ما يقرب من 1200 موقع أثري، لافتا إلى أن هذا يتطلب حراسة وميزانية كبيرة.
ويستطرد قائلا «العراق منذ تأسيسه لم يحظ بحكومة عملت على النهوض بالمواقع الأثرية، سواء على صعيد التنقيب والحمايات والصيانة وغيرها، على الرغم من أن هذه المواقع تعد موردا اقتصاديا كبيرا إذا ما تم استثماره بشكل صحيح».
وكان العديد من المواقع الأثرية تعرض للنهب والسرقة خلال فترة الانفلات الأمني إبان دخول القوات الأميركية إلى العراق عام 2003، وفي مقدمتها (تل جوخا) بشمال ذي قار، والتي كانت بمثابة العاصمة الاقتصادية للدولة السومرية.
ويؤكد الباحث في الشأن التراثي أمير دوشي أن أساليب وطرق حماية المواقع الأثرية «بدائية»، ويقول إن اللصوص بدأوا «بتطوير أدوات السرقة». وهو يرى أنه من غير المنطقي أن يظل حراس هذه المواقع مسلحين بالكلاشنيكوف فحسب، «إذ يجب دعم المنظومة الأمنية بأدوات حديثة من قبيل الطائرات المسيرة والكاميرات الحرارية وغيرها».
ويقول دوشي «هذا الإهمال الذي تعانيه الأماكن الأثرية يجعل منها عرضة للسرقة والتخريب»، لافتا إلى أن سبب هذا الإهمال هو «غرق الحكومات في الأزمات السياسية المتتالية في ظل عدم الاستقرار الأمني بشكل تام في جميع أنحاء العراق».
وتعاقب القوانين في العراق بالسجن مدة لا تقل عن سبعة أعوام ولا تزيد عن 15 عاما كل من سرق قطعة آثار أو مادة تراثية في حيازة السلطة الأثرية، وبتعويض مقداره ستة أضعاف القيمة المقدرة للأثر أو المادة التراثية في حالة عدم استردادها.
وتكون العقوبة السجن المؤبد إذا كان مرتكب الجريمة من المكلفين بإدارة أو حفظ أو حراسة الآثار أو المادة التراثية المسروقة. وتصل العقوبة إلى الإعدام إذا كانت السرقة بالتهديد أو الإكراه أو كان مرتكبوها شخصين فأكثر وكان أحدهم يحمل سلاحا ظاهرا أو مخبأ، ويعاقب بالإعدام من أخرج عمدا من العراق مادة أثرية أو شرع في إخراجها.
«قلة الأمن»
يقول شامل الرميض مدير مفتشية الآثار في ذي قار «ما تم تنقيبه في المواقع الأثرية داخل المحافظة لا يشكل سوى واحد في المائة، إذ يبلغ عدد المواقع المنقب عنها حتى الآن ثمانية مواقع أثرية من أصل 1200 موقع منذ عمليات التنقيب الأولى عام 1920، وهناك 70 موقعا منها يحرسها 145 رجل أمن، وهذا يعني أن ستة في المائة فقط من المواقع الأثرية محمية أمنيا».
وكان أول تنقيب أثري في محافظة ذي قار قبل نحو 100 عام، لكن أعمال التنقيب لم تكشف سوى عن واحد في المائة من المواقع الأثرية التي تحتضنها المحافظة. وكان ذلك في مدينة أور الأثرية بمعرفة بعثة مشتركة بريطانية أميركية في عام 1922، ولكن التنقيب توقف في عام 1984 نتيجة ظروف الحرب العراقية الإيرانية ولم يُستأنف حتى عام 2006.
ويضيف الرميض أن الأمر لم يتوقف عند إقدام بعض اللصوص على سرقة المواقع الأثرية، بل إن هناك أيضا «تجاوزات حكومية» مشيرا إلى ما حدث مع جامع السراجي التاريخي الذي أمر محافظ البصرة أسعد العيداني بإزالة مئذنته الشهر الماضي لتوسعة الشارع. وبحسب تصريحاته التي تناقلتها وسائل الإعلام، فإن هذه الخطوة جاءت بعد التنسيق مع ديوان الوقف السني.
وكان وزير الثقافة والسياحة والآثار أحمد البدراني قد أوضح في بيان حول الواقعة أن الوزارة ستتخذ الإجراءات القانونية «لحماية الإرث الحضاري للعراق ضد أي تجاوز إداري أو شخصي يشجع ويعمل على إلحاق الضرر بشكل مقصود أو عفوي، خصوصا حادثة هدم منارة جامع السراجي» الذي يتجاوز عمره 295 عاما.
وطال النهب والتخريب أيضا المواقع الأثرية التي تزخر بها محافظة نينوى بشمال العراق والتي تعود إلى الحضارة الآشورية، خصوصا مدينتي الحضر والنمرود، على يد تنظيم داعش الذي سيطر على المحافظة في يونيو (حزيران) 2014.