لم يجد أحمد محمد (47 عاماً)، بداً من حمل والده المريض على ظهره، والتنقل به بين أحياء منطقة بري القريبة من القيادة العامة للجيش السوداني، والتي تشهد معارك ضارية بين الجيش و«الدعم السريع»، طوال أكثر من 10 أيام متتالية.
حزن الرجل الأربعيني، وبدا عليه الأسف والندم الشديدين؛ لأن قواه خارت في لحظة ما، وسقط والده عن ظهره على الأرض، ولم يقوَ على النهوض، فاضطر إلى ربطه على ظهره بقطعة قماش، على طريقة حمل الأمهات عند بعض القبائل السودانية لأطفالهن على ظهورهن.
حادثة سقوط الأب المسن عن ظهر ولده ليست الوحيدة؛ إذ يشاهد العديد من الأبناء الشباب وهم يهرولون وعلى ظهورهم أمهاتهم وآباؤهم المسنون أو المرضى. فوسائل النقل انعدمت منذ اندلاع القتال في الخرطوم منتصف أبريل (نيسان) الماضي.
ظروف البقاء في العاصمة
يقول الشاب العشريني مازن عبد الله، لـ«الشرق الأوسط»: «عندما اشتدت المعارك في حي النصر بشرق النيل، وانهمرت القذائف والمتفجرات العشوائية على المنازل، حملت والدتي على ظهري إلى منطقة حلة كوكو (على بعد 5 كيلومترات)، دون أن أشعر بالتعب». ويتابع: «كنت فرحاً لأننا وصلنا إلى وجهتنا بخير، لكن حزنت لأن المواطن يدفع ثمن الحرب ولم تتحقق له أية مكاسب من الجانبين». ولم تستطع أسر كثيرة مغادرة الخرطوم؛ لأن لديها «كبار سن»، لا سيما الذين يعجزون عن الحركة، وعدم قدرة هؤلاء المسنين على التنقل يمنع انتقالهم إلى مناطق آمنة خارج الخرطوم، ما يشكل ضغطاً على أقاربهم الذين يضطرون للبقاء معهم في منازلهم.
بين «الدرداقة» و«الكارو»
وإلى جانب الحمل على الظهر، يشاهد في حالات كثيرة شباب يحملون مسناً أو مريضاً على عربة بإطار واحد، تستخدم عادة في نقل الأغراض، وتعرف محلياً باسم «الدرداقة»، ويدفعونه إلى المستشفيات أو إلى مناطق أكثر أمناً، فيما يرفض بعض الناس أن يتم نقلهم بتلك الطريقة بدافع الحياء، ويفضلون العربات التي تجرها الدواب (كارو)؛ إذ توجب عليهم قطع مسافات طويلة.
وتعد هذه الوسيلة الأنسب للمرضى المسنين، حيث يتم وضع «لحاف» من القطن ليرقد عليه المريض المطلوب نقله إلى المستشفى في وضع صحي لا يمكنه من الجلوس. وهزت ضمير المجتمع، صورة للشاعر السوداني الشهير هاشم صدّيق، وهو أحد شعراء الثورة السودانية، وهو يُنقَل على عربة «كارو» ويرقد على لحاف وضع خصيصاً لنقله إلى مكان أكثر أمناً؛ لأنه لا يستطيع الجلوس.
يقول يوسف علي، وهو صاحب عربة «كارو»، لـ«الشرق الأوسط»، إن عربات «الكارو» قد لا تتوافر في كل الأوقات؛ لقلتها أو لبطء سرعتها، لذلك يعطون الأولوية لنقل كبار السن، وتحديد أجرة معقولة حسب المسافة. ويتابع: «أدرك أن الظروف الاقتصادية التي يعيشها الناس قاسية، لذلك لا أجادل في ثمن الرحلة».
الدراجات النارية عرضة للنهب
وأحياناً، في حال تعذر كل الخيارات، يضطر شباب الحي إلى حمل مريضهم أو كبار السن من آبائهم وأمهاتهم، على أكتافهم، إلى أقرب مشفى، ويتم تغطيتهم لاتقاء أشعة الشمس الحارقة. وكانت «الركشة»، وهي دراجة نارية بثلاثة إطارات، وسيلة نقل أساسية، لكن مع احتدام المعارك المستمرة للشهر السادس، ندر استخدام تلك الوسيلة الأسرع والأقل كلفة، خوفاً من نهبها أو سرقتها، أو الاعتداء على سائقها والراكبين برفقته، بواسطة عصابات متفلتة، استغلت ظروف الحرب وغياب القانون لتفعل ما تشاء في وضح النهار. وبمواجهة هذه المخاطر، فإن سائقي «الركشات» يطلبون مبالغ كبيرة مقابل المخاطر وندرة الوقود، تتراوح بين 27 و 30 ألف جنيه (نحو 50 دولاراً أميركياً) للمشوار.
ومنذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات «الدعم السريع» قبل نحو 6 أشهر، شهدت العاصمة الخرطوم ارتكاب جرائم فظيعة، تسبب في نزوح نحو 5 ملايين في الخرطوم وعدد من ولايات البلاد، بينهم أكثر من مليون لجأوا إلى دول الجوار، بينما بلغ عدد القتلى، حسب إحصاءات أممية، 7.5 مليون، وفشلت مبادرات وضغوط دولية وإقليمية عديدة في إيقاف القتال بين جيشي الجنرالين.