تبدو الحرب الضارية التي تخوضها أستراليا ضد “جحافل” الأرانب منذ أكثر من قرن خاسرة. لم ينفع لا الرصاص ولا الفخاخ ولا الأسيجة إلى أن جاء الدور على “الأسلحة البيولوجية”.
أصحاب الآذان الطويلة والفراء الناعم ما أن وصلت إلى هذا البلد القارة، حتى طاب لها المقام وتكاثرت بسرعة كالعادة ما اضطر معه السلطات في وقت من الأوقات إلى تسييج آلاف الكيلو مترات من الأراضي وبدء حرب “تحرير” ضد الدخلاء.
هذا الحيوان الأليف والوديع هو بمثابة كارثة حقيقية لأستراليا، فقد تكاثر وفاق عدده في أكثر من حقبة سكان البلد من البشر.
حين استقوى عاث في الأرض فسادا وأهلك المزروعات، وأصبح بالنسبة لاستراليا، آفة مهلكة مثل الجراد في إفريقيا.
الكارثة بدأت منتصف القرن التاسع عشر حين قرر مستوطن بريطاني يدعى مارتن أوستن أن ما ينقص الطبيعة في أستراليا وجود أرانب تجوب سهولها وبواديها وتلطف من مظهرها الصحراوي وتؤنس حيوانات “الكنغر” البرية.
جلب 24 أرنبا وأطلقها في مزرعته ثم فرك يديه فرحا وهو يراقب “المهاجرين” الجدد وهم يتنشقون تراب أستراليا ويتعرفون على أعشابها لأول مرة.
تكاثرت الأرانب من دون توقف، ومع الزمن تحولت إلى كارثة. لم تزاحم ذوات الآذان الطويلة الحيوانات الأخرى على الكلأ وتحرمها من الطعام فحسب، بل تسببت شهيتها الكبيرة في الإضرار بشدة بالغطاء النباتي الذي يحمي التربة من التعرية، فزاد التصحر بالطيع.
المشكلة تفاقمت وأثرت الأرانب “الوديعة” بشدة في السلسلة الغذائية للحيوانات والنباتات التي كانت تطورت وتكيفت على مدى آلاف السنين. نتيجة لذلك نفقت العديد من الأنواع الأخرى.
لم تجد الأرانب من يوقف زحفها. وساعدها المناخ الأسترالي على إظهار مواهبها الفذة في التكاثر. وفي المحصلة تركت خلفها “لحافا رماديا” غطى استراليا بسرعة 100 كيلو متر في العام.
منذ أوائل عام 1880، جرى التخلي عن المزارع الأولى بسبب الأرانب. وفي عام 1887، شوهدت طلائع الأرانب لأول مرة ولاية كوينزلاند في شمال شرق أستراليا. بحلول عام 1890 ، خرج “المهاجرون” الجدد عن نطاق السيطرة، ومع عام 1926، بلغت أعداد الأرانب في أستراليا بحسب بعض التقديرات حوالي 20 مليارا، أي 3333 مقابل كل مواطن استرالي.
بدأت الحرب ضد الأرانب في وقت مبكر. وفي عام 1875، أصدرت ولاية جنوب أستراليا قانونا يلزم المزارعين بقتل الأرانب متى التقوا بها وتقديم جلودها إلى السلطات بمثابة دليل. من يلم القليل من الجلود تعرض لدفع غرامة، فيما من أبلى بلاء حسنا ضد هذا العدو الغاشم!
انتشرت هواية صيد الأرانب المربحة مثل الهشيم في النار، وتطوع في هذا المجال حتى تلامذة المدارس بهدف الحصول على مصروف جيب. بعض المحترفين حققوا ثروات من وراء قتل الأرانب، وقضى البعض منهم الليالي وهم ينصبون عشرات الفخاح للإيقاع بهذه الحيوانات الوديعة والشرهة.
لم تفد الفخاخ ولا الرصاص في الحد من أعداد الأرانب. كانت جحافلها تتجول في كل مكان غير عابئة بشيء. وما أن ينقص عددها حتى يعود إلى الارتفاع بفضل موهبتها الفريدة في التكاثر.
لوقف غزو الأرانب لأراضي استراليا، جرى بين عامي 1901 – 1906 تقسيم أراضي هذا البلد الشاسع بثلاثة أسوار من الأسلاك الشائكة بارتفاع يزيد عن متر وبطول إجمالي قدره 3256 كيلو مترا.
الحواجز والأسوار الشائكة لم توقف الأرانب وتعلمت مع الزمن الحفر أعمق والدخول إلى المناطق التي حظر فيها تجولها. بنفس الوقت زاد عددها على الرغم من زيادة تصدير أستراليا لجلودها. بلغت قيمة صادراتها بحلول عام 1940 مئة مليون قطعة جلد في العام. أما لحوم الأرانب الشهية فقد كانت رخيصة إلى درجة أنها لم تجد أي إقبال من الزبائن.
قبل ذلك في عام 1887 بلغ اليأس بولاية نيو ساوث ويلز الأسترالية إلى درجة تخصيص جائزة قدرها 25 ألف جنية إسترليني، أي ما يعادل مليون ونصف المليون دولار في الوقت الحالي، لأي شخص تسهم أفكاره في تحرير البلاد من احتلال الأرانب.
الولاية تلقت 1456 عرضا. الأمر الأكثر إثارة أن أحدها جاء من عالم الأحياء الدقيقة الشهير لويس باستور. هذا العالم اقترح نقل عدوى كوليرا الدجاج إلى الأرانب. مهد لهذه الطريقة بتكييف العامل المسبب لكوليرا الدجاج مع الحياة في جسم الأرانب، ويطلق الآن على المرض “البستريلا”.
لم ينجح الوباء مع الأرانب التي أظهرت أجسامها قدرة على المقاومة، ولم ينفق إلا حوالي 30 بالمئة بهذا الداء، وسرعان ما قام الناجون بتعويض النقص في صفوفهم!
بنهاية المطاف تفاقمت المشكلة إلى درجة أن الحكومة الأسترالية في عام 1951 قررت استخدام الأسلحة البيولوجية الأكثر فتكا، وتم تسميم الأرانب بفيروس الورم المخاطي. هذا السلاح تمكن من قتل 19 من كل 20 أرنب. بدا كما لو أن المعركة في طريقها إلى الانتهاء وأن النصر قاب وقسين أو أدنى، لكن الأرانب تجاوزت الكارثة بسرعة، وعادت إلى التكاثر بعد أن اكتسبت مناعة ضد هذا الفيروس الفتاك.
السلطات الأسترالية وجهت ضربة بيولوجية أخرى إلى الأرانب في عام 1990، مستخدمة هذه المرة فيروس مرض الأرانب النزفي. كادت أستراليا أن تتحرر مجددا، إلا أن هذا الفيروس انتشر في أوروبا وأمريكا والحق أضرارا جسيمة بمزارع تربية الأرانب هناك.
بالمحصلة لم تحسم الحرب مع الأرانب، على الرغم من المعارك المتوالية. وقد يتساءل البعض، لماذا لا يتم تشجيع الأستراليين على أكل لحوم الأرانب للحد منها “بطريقة إنسانية” وفي وجبات شهية؟
الجواب صادم. لا توجد أي ضمانة في أن يكون الأرانب الذي تم اصطياده أو شراؤه من مزرعة للتربية غير مصاب بفيروسات جولات الحرب البيولوجية السابقة. لهذا السبب لا تستهلك إلا نسبة نادرة من السكان لحوم الأرانب، لأن أسعار مثل هذه اللحوم السليمة والخالية من الأمراض، باهظة الثمن! إذا ما الحل؟ هل ستستسلم استراليا للأرانب وترفع الراية البيضاء، أم أنها ستواصل القتال وتبحث عن سلاح جديد قادر على الإطاحة بهذا الحيوان الوديع والشره، من عرش التكاثر؟
المصدر: RT