تزامنا مع زيارة رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب الى الخليج، تعكس الوعود الاستثمارية الضخمة التي طرحتها المملكة، طموح ولي العهد الامير محمد بن سلمان الكبيرة، لكن هذه الوعود تخفي في طياتها عجز مالي سعودي مقلق.
وبالرغم من الاعلانات الضخمة عن الصفقات المالية التي تقوم بها السعودية والتي تصل الى مئات المليارات، اصبحت الاوساط المالية اقليميا ودوليا تعي أن السعودية ليست المغناطيس المالي، كما كانت في السابق.
حيث تشكل العقبات الداخلية، كـ عجز الميزانية والانفاق المفرط على المشاريع الاستعراضية، عاملا يعيد رسم موقع المملكة في النظام المالي للشرق الاوسط، ولم تعد تحسب كقوة صاعدة، بل كدولة تستنزف مواردها في سبيل الحفاظ على زخم مصطنع يخدم اهدافا شخصية أكثر من كونه يعكس رؤية وطنية حقيقية.
عجز مالي سعودي
وتواجه المملكة العربية السعودية عجز مالي في الميزانية، ما اضطرها الى اصدار سندات بمليارات الدولارات لتمويل مشروع رؤية 2030، الذي يروج له كـ خارطة طريق لتحقيق التنوع الاقتصادي.
غير أن الواقع يظهر أن هذه الخطة، التي يتوقع أن تتجاوز كلفتها التريليونين دولار،توشك على استنزاف مواردها قبل أن تحدث تحول ملموس في بنية الاقتصاد المعتمد على النفط،
وحتى صندوق الاستثمارات العامة، الذي من المفترض أ، يكون المحرك الرئيسي للتطور والاستثمار، يواجه تحديات في الايفاء بالتزاماته الطموحة.
وفي ظل هذه الضغوط، يسعى المسؤولون لايجاد سبل لخفض الانفاق دون المساس بالصورة التي يسعى الامير محمد بن سلمان الى تصديرها كرمز للنهضة والانفتاح.
منافس قوي
من جهة أخرى، تظهر قطر نهجا متوازنا بين الوفرة المالية والتخطيط بعيد المدى، إذ أعلنت عن خطط لاستثمار 1.2 تريليون دولار في الولايات المتحدة، حيث يساهم جهاز قطر للاستثمار بنحو 500 مليار دولار منها، ما يعكس استراتيجية مدروسة لتعظيم العوائد وتعزيز النفوذ الاقتصادي خارجيا.
وبالرغم من ضخامة هذه الارقام، فإنها لا تمثل عبء على الاقتصاد القطري، نظرا للفائض المالي الكبير الذي يتجاوز الاحتياجات المحلية، أما في المقابل، تعتمد المملكة السعودية بشكل متزايد على جذب رؤوس الاموال الاجنبية للوفاء لتعهداتها الطموحة، في ظل التزامات مالية تثقل كاهل اقتصادها.
اختلال في الموازنة
يتجلى الاختلال في الأولويات بوضوح، ففي الوقت الذي ينشغل فيه ولي العهد بصياغة صورة ذاتية كقائد حديث يقود تحوّلًا عالميًا، تتراجع القضايا الداخلية الى الهامش، فالمواطنين يواجهون خدمات عامة متعثرة، بطالة مرتفعة بين فئة الشباب، الى جانب نظام ضريبي جديد زاد الاعباء المعيشية.
كل هذه المؤشرات تنذر بأن التعهدات الخارجية قد تأتي على حساب الاولويات الداخلية في السعودية، بل إن الصفقات الضخمة التي أبرمت خلال زيارة ترامب لم تكن نتيجة استراتيجية اقتصادية وطنية مدروسة، بقدر ما عكست مسعى شخصي من ولي العهد الامير لكسب دعم سياسي امريكي يعزز موقعه في الحكم، في لحظة اقليمية تتسم بالتوتر والاضطراب.
شكوك الشخصيات المالية
بوفقا لتقارير بلومبيرغ، بدأ المصرفيون وخبراء المال في اعادة تقييم مستقبل الاستثمار في المملكة العربية السعودية، حيث اصبح الكثير منهم يشككون في قدرة السعودية على الوفاء بالتزاماتها المالية.
حتى الحضور التقليدي القوي لشخصيات مالية مثل جيمي ديمون من JPMorgan أو لاري فينك من BlackRock لم يعد بنفس الزخم السابق. اذ اصبح التركيز الآن لا على الصفقات العالمية بل على بيع السندات والقروض، مما يعكس تحوّل واضح من الاستثمار في المستقبل إلى إدارة أزمة سيولة.
سياسات استعراضية وازمات داخلية
جزء كبير من المشكلة يكمن في اسلوب التي إدارة السياسة المالية خلال عهد الامير محمد بن سلمان.
حيث تُصرف المليارات على مشاريع ضخمة مثل نيوم، المدينة المستقبلية، دون وجود نموذج اقتصادي واضح يضمن عوائدها. في الوقت نفسه، يُقلَّص الدعم وتُفرض ضرائب إضافية على المواطنين، مع إعادة تنظيم الإنفاق بشكل قسري.
كل ذلك يؤكد أن أموال السعودية تُستخدم لتعزيز صورة وهمية عن التطور، بدلاً من بناء اقتصاد مستدام يخدم الأجيال القادمة.
نقاط الضعف
مع تعداد سكان يقارب 36 مليون نسمة، تواجه السعودية تحديات تختلف عن جيرانها الخليجيين الأصغر مساحة، فحجم السكان هذا يفرض احتياجات تمويلية وخدمية هائلة لا يمكن تأمينها بمجرد الاعتماد على التوسع في الاستثمارات الدولية.
حيث إن اقتصاد السعودية لا يزال يرتكز بشكل رئيسي على النفط، الذي تتأثر أسعاره بالعوامل الجيوسياسية.
من جهة أخرى، تتمتع أبوظبي بنقطة تعادل نفطية أقل بكثير، مما يمكّنها من تحقيق فائض مالي حتى في ظل انخفاض أسعار النفط. هذا الفارق يعمّق الفجوة في القدرة على المناورة المالية بين الجانبين بشكل متزايد.
صندوق الاستثمارات العامة
يواجه صندوق الاستثمارات العامة، الذي شكّل لفترة طويلة حجر الأساس في تنفيذ رؤية السعودية 2030، ضغوطًا متزايدة لإعادة توجيه بوصلته الاستثمارية. فبعد أعوام من الانخراط في صفقات خارجية ضخمة ذات طابع سياسي، تتصاعد الدعوات اليوم لتركّزه على الاستثمارات المحلية التي تعزز الاقتصاد الوطني وتلبي الاحتياجات التنموية داخل المملكة.
كما يواجه صندوق الاستثمارات العامة تحديًا إضافيًا يتمثل في المنافسة المتزايدة من صندوق مبادلة الإماراتي، الذي أصبح أكثر ديناميكية على الساحة الدولية. ويستفيد “مبادلة” من بيئة مالية مستقرة تفتقر إليها الرياض في الوقت الراهن، ما يمنحه قدرة أكبر على التحرك وتنفيذ استثمارات استراتيجية بثقة واستمرارية.
وعلى عكس الصورة التي يروّج لها الإعلام الرسمي، تكشف المعطيات المالية عن عجز مالي سعودي، اضافة الى ان السعودية تفقد تدريجيًا موقعها كقوة مالية صاعدة في الشرق الأوسط. ولا يعود ذلك إلى نقص في الموارد، بل إلى اختلال في إدارة الأولويات وتوجيه الأموال نحو مشاريع ضخمة تفتقر إلى الجدوى الاقتصادية الواقعية.