ــ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ــ إنه نداءُ ربٍ ابتعث رسوله لأُمة كانوا يطوفون حول الاصنام طيلة قرون عديدة، مع انها مجرد أصنام لا تحمل لنفسها ضر ولا نفع حتى تستطيع أن تنثر على الاخرين نفعها او ضرها.
حين كانت الأمة العربية آنذاك غافلة عن عبودية الله الواحد والتي نادت به جميع الديانات السماوية والتي كانت لعبة الأفكار الشهوانية والشريرة لمن كان إلههم المال والسلطة وبقاؤهم جهل الأمة. لكن بقدرة الله سبحانه وتعالى ، أشرقت شمس محمد من بين الظلمات لتبشر بنور المعرفة والوعي والإنسانية على العالم أجمع عبر تاريخ طويل.
{ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} خير مقام منحه الاله الواحد لنبي الإسلام وقيادته خلال 23 سنة من الجهاد التي لم تكن إلا لإخراج الإنسان من الظلمات إلى النور و من الجهل إلى العلم و من القذارة إلى الطهارة ، وبلوغ أعلى درجات الإنسانية.
حقاً يقال إن محمدًا هو النموذج والمميز الوحيد لكل العالم ، ولا سيما عالمنا العربي … حيث يمكن لحياة نبي الإسلام {ص} ، بأبعادها المختلفة ، أن تكون نموذجًا وأسوةً لحياة المجتمعات العربية وغيرالعربية. { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة}
وفي غمار استكشاف الحياة التاريخية لرسول الله (ص)، يمكننا إيجاد طرق مناسبة لنمو وتكامل المجتمع. منها الأساليب والطُرق التربوية والسياسية والثقافية وغيرها من الطرق التي يبسطها كتاب القرآن الكريم للقاصي والداني.
واحدة من أهم الأساليب التربوية التي تخلق الحب والعاطفة في المجتمع وتنمي الجانب الروحي والمعنوي للإنسان هي نصيحة النبي (ص) بتقديم الهدايا للأقارب والأصدقاء بعد العودة من السفر. لكن في ظل الظروف الاقتصادية والمشاكل التي يمر بها العالم العربي اليوم، اقترن تطبيق هذه النصيحة والسيرة الأخلاقية بمشاكل وتحديات وأضرار كثيرة.
انطلق الحاج الى رحلته … هذه الرحلة التي عانى فيها لسنوات من المشقة والمعاناة حتى استطاع على رغم وضعه الاقتصادي الصعب وحياته المؤلمة أن يجمع تكاليف السفر من خلال الاقتصاد في الأكل والشرب على نفسه وأسرته شيئا فشيئاً.
وفي نهاية المطاف وبعد تحمّل كل هذه الصعاب الاقتصادية والروحية ، تجد الحاج يصل إلى بيت الله الحرام ليكون ضيفًا على هذه المائدة المباركة لبضعة أيام. لكن المشكلة تبدأ عندما يقع ناظراه على الاسواق ومحلات بيع الهدايا وهو في طريقه من المسكن إلى الحرم المكي فيتذكر أولاده وزوجته وأصدقائه … يميل ببطء نحو المحلات والمجمعات التجارية ، حتى في الأيام التالية وهو في مسيره نحو الحرم المكي ، لا مكان لذكر الله في قلب الحاج ، وكل ما يهتم به هو هذا السؤال الوحيد: ماذا ولمن أشتري اليوم ؟
إن ضغوط التسوق من جهة ، وزيادة الأسعار وارتفاع تكلفة البضائع من جهة أخرى ، تجعله ينتقل باستمرار من سوق إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى ، علّه يستطيع العثور على مشترياته المناسبة لذوقه و وضعه المادي. و بعد أيام من التسوق ، يعاني الحاج من التعب والإرهاق الشديد لدرجة أنه لا يستطيع حتى أن يؤدي صلاته، يقوم بإعداد الهدايا والتذكارات ويرتبها في حقيبته …
يتسقل الطائرة أو الحافلة ويعتزم الذهاب إلى منزله … ليلقاه أقاربه واصدقائه ويوزع عليهم هدايا السفر آملاً أن تكون الهدية هديةً قيّمةً وثمينةً من هذه الرحلة الروحية و المعنوية …
ولكن حتى يفتح عينيه ويعود إلى رشده ، يرى أن كل هذه الأمور تقف جنبًا إلى جنب لتحول رحلته الروحية المعنوية إلى رحلة ذات بعد مادي ودنيوي … وبدلاً من أن يستغل الحاج فرصة العبادة والتقرب الى الله عزوجل ، يكون قد قضى جلّ وقته في التسوّق وقد أهدر ودمّر كل مشقاته وأتعابه التي عانى منها قبل السفر … وهو يأسف لعدم تمكنه من اتباع النصيحة القرآنية { رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ }. يبقى الحاج يتحسر ويلوم نفسه لسنوات طويلة بسبب إهماله الفرص الذهبية التي فقدها.
لا يمكن تجاهل دور الحكومات والسياسات الخاطئة التي تتبعها في ضبط الأسعار وتوفير الفرصة السانحة للتجار ومن ورائهم السياسيون الداعمين لهم باستغلال موسم الحج ومواقع مقدسة مخصصة للعبادة ، فيمكن القول بكل تأكيد أن الحاج في رحلته الى بيت الله الحرام لا يقضي وقته الا في العبادة ، ويصرف القليل من الوقت دون قلقٍ أو توترٍ في شراء الهدايا للأقارب ، وتخلد هذه الرحلة دائمًا في قلبه..
هكذا يكون الحاج قد أدّى فريضة الحج او العمرة خالصةً لوجه الله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ومثل هذه الرحلات تنمّي الشخص معنوياً وتكون ذخراً له في آخرته.