أعلنت صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر عن تدشين مركز ومسجد المجادلة المعني بتنوير النساء المسلمات حول علاقة الإنسان بدينه.
ويوفر مركز ومسجد “المجادلِة” مساحة للمرأة المسلمة للتعبّد والتعلم وتطوير ذاتها في الشؤون الدينية والدنيوية.
وقالت صاحبة السمو في كلمتها ما يلي:
السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
استمعنا للتو إلى آياتٍ من القرآنِ الكريم أبانتْ لنا مفهومَ المجادِلة، وإذ يُقال في الفلسفةِ أنّ الجدلَ أصلُ التطوّر، ها قد علِمنا كيف أنَ خولةَ بنت ثعلبة رضيَ الله عنها اتّخذت من الجدلِ، وكانتْ خيرَ مجادِلة، سبيلاً لتجسيدِ رؤيتِها في سعيِها إلى حلِّ مشكلتِها عندما توّجهتْ إِلَى النَّبيِّ محمد صلى الله عليه وسلمَ تشكو إليه ظُلمَ الأعـرافِ الجاهلِيَّةِ التـي فَرَّقَتْ بينَها وبينَ زوجِها،
سائلةً لأسرتِــها لمَّ الشَمْلِ كي لا تتشّتتْ وتنحَلَّ عُقدتُها، فترافعَتْ عـن حَقِّها كامرأةٍ وزوجةٍ وأمٍّ، راجيَةً عدلَ اللهِ في أمرِها، ولم يجد النبيُّ في جدالِها حرَجاً، أو عيباً، حتى جاءَها جوابٌ من الله عزَّ وجَل في تلك الآياتِ الكريمةِ التي أصغيتم إليها، حيث أظهَرتْ خولةُ بنت ثعلبة بمبادرتِها شجاعةً وقوةَ شخصية ووعياً في أنّ الدينَ تسهيلٌ في الدنيا وليس العكس، فلم تقفْ مكتوفةَ الأيدي، بل سعتْ وبحثَتْ عن حلٍّ لِلمشكلةِ من داخلِ منظومتِها الدينية، قاصدةً حِفظَ حُدودِ اللهِ في نفسِها وأَهلِها بعقلٍ وتبصّر،
وذهبتْ إلى حاملِ الرسالةِ السماويّة نفسِهِ تستفيه في مشكلتِها بحثاً عن حل، وقد استجابَ اللهُ سبحانهُ لطلبها.
فأينَ نحنُ من هذا النموذج؟
وماذا أَعْدَدْنَا لنسائنا اليوم بغيةَ الارتقاء إلى هذا المستوى من الوعي الـمُتمَيِّز؟
إنَّ ما فعلتْهُ خولةُ بنت ثعلبة يثيرُ أسئلةً قديمةً جديدة، من حيثُ إدراكِها لدورِها كامرأةٍ في حرصِها على تماسكِ أسرتِها، وهو دورٌ يتمحورُ حولَهُ حاضرُ ومستقبلُ الأسرة.
إننا كعربٍ ومسلمين تقومُ ثقافتُنا القِيَميةُ على قُدسيةِ البِنية الأسريةِ في علاقاتِها الداخليةِ والاجتماعية ووحدتِها وحمايتِها من التياراتِ الغريبةِ والأفكارِ الشاذة. ولعلَّ الكثير من مشاكلِنا ناتجةٌ عن كونِنا في هذا العصر مجرّدَ مستهلِكينَ للفكرِ الغربي، وفي
أفضلِ الأحوالِ نعيدُ إنتاجَهُ، وأنّ أزمتَنا في جذورِها فكريةٌ في المقامِ الأول، فمَن لا يخلق فكراً أصيلاً لن يقدر على إنتاجِ خصوصيتِهِ والدفاع عن هِويِّتهِ، وهذا يستدعي ثورةً فكريةً وثقافيةً تحصّنُنا، في غيابِ أيِّ تلاقحٍ ثقافي، من الاستهلاكِ السلبي
لأفكارِ الآخر وتعيدُنا إلى استلهامِ مجدِنا البغدادي والأندلسي يومَ كنا ننتجُ الفكرَ والمعارفَ العلميةَ والإنسانية ونصدّرُها إلى مَن يصدّرونَها إلينا اليوم. وبكلماتٍ أخرى، وبالإحالةِ إلى القولِ المعروف في أنّ الأسرةَ نواةُ المجتمع، والمرأةُ في صميمِ هذهِ النواة، ينبغي أن نعودَ إلى الأسرةِ بصفتِها الوحدةَ الأساسيةَ للمجتمع لنبدأَ من هناك إعادةَ البناءِ وعلى المستوياتِ جميعها، وفي المقدِّمة: حمايةُ لسانِنا العربي من العُجْمةِ وصونُ هِويتِنا العربيةِ الإسلامية وتعزيزُ منظومتِنا القيمية وخصوصيتِنا الثقافية، وللمرأةِ-الأم الدورُ الأساسيُّ والمؤثِرُ في الوصولِ إلى هذهِ الغاياتِ النبيلة.
ولكَمْ يُحزنُني ويؤلمُني أنْ أسمعَ تلكَ الرطانةَ الأعجميةَ لساناً لأطفالِنا، وأحياناً بينَ الأطفالِ وذويهم، وكأننا نقول لهم: “تغرّبوا ففي الغربةِ منجاةٌ وتمدّن، ما لكم ولغةٌ تراجعَ أهلُها عن ركبِ الحضارة وأنهكتْها الحروبُ والصراعات”، ونسينا أنّ العربيَّ ابنُ أمّةٍ ظهرَ فيها رسولُ الله محمد (ص)، والعربي هو جابر بن حيان، وابن النفيس، والكندي، وابن الهيثم، وابن رشد، وأبو عبد الله الأدريسي وقطري بن الفجاءة، والقعقاع بن عمرو التميمي، والعربية هي: الخنساء وزرقاء اليمامة
وخولة بنت ثعلبة، وفاطمة الفهري وجميلة بوحيرد وسميرة موسى وزها حديد. والعرب هم أطفالُ فلسطين: أسامة وعمر ودانة من الذين علّمونا أنّ اللغةَ ليستْ هِويّةً فقط وإنما هي وطن، وأنّ الوطنَ يبدأ بحضنِ أمٍّ وهدهدةٍ عربية ليس فيها هاي أو هلو.
اللغةُ العربية، أيتها السيداتُ والسادة، هي نحنُ، تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، لا تتشكّل هويتُنا من خارجِها، وأيُّ تفريطٍ بها هو تفريطٌ بكلِّ شيء، أقولُ كلَّ شيء وأعني ما أقول. ومن هنا أحذّرُ من اللاشيء.
أيها الحضورُ الكريمُ،
لا نجتمِعُ هنا اليوم للاحتفالِ بالجماليّاتِ المعماريّةِ للمبنى ومِن ثمَّ تحويلُهُ إلى مزارٍ سياحي، وإنّما لتسليطِ الضوءِ على مفهومِ العدالةِ في العبادة من خلالِ إنشاءِ مركز ومسجد يتيحُ للمرأةِ تطويرَ ذاتِها في الشؤونِ الدينيةِ والدنيوية من منظورٍ شرعيٍّ
وفَهمٍ شاملٍ للعبادةِ حتى لا تبقى مصليَّاتُ النساءِ مُهَمَّشةً ومنزويةً في ركنٍ قَصِيٍّ، بوضعٍ لا يليقُ بقيمةِ المسجدِ الروحيةِ والإيمانية بما يجعلُها بيئةً غيرَ جاذبةٍ للفتيات.
لذلك حرِصنا في هذا الفضاءِ على إطلاقِ البرامج التي ترتقي بالمرأةِ تعليماً وتثقيفاً وتوعيةً، وتُلبّي مُخْتلِفَ احتياجاتِها الفكرية المعاصرة، بما أعددناه من برامجَ دينيةٍ تهدفُ إلى توعيةِ المرأةِ بأمورِ دينِها ودنياها، شخصياً وأسرياً واجتماعياً.ولطالما سئلتُ عن وجهةِ نظري فيما يخصُّ قضايا المرأةِ المعاصرة، وما كانَ من اليسيرِ تحديد موقفٍ موضوعيٍّ ومتوازنٍ في شأنٍ كهذا، يتداخلُ فيهِ الديني والثقافي، العقلي والوجداني، الذاتي والموضوعي، بَيْدَ أنّ تساؤلاتٍ نضجتْ في ذهني:
هل يُمكنُ النهوضُ بقضايا المرأةِ من خارجِ منظومتِنا الدينيةِ والحضارية؟ وإلى أيِّ حدٍّ يُمكنُ لمجتمعاتِنا، أنْ تُطلَقَ عمليةَ اجتهادٍ واسعةٍ وعميقةٍ، تستلهمُ المقاصدَ الكبرى للدينِ في مُقاربةِ موضوعِ المرأة؟
وقد وجَدتُني موزَّعَةً بينَ تلكَ التساؤلات باحثةً عن مَدخلٍ يوائمُ بينَ مختلفِ المعطياتِ قَيْدِ النَظَر، فاهتديتُ إلى خلاصةٍ بنيتُ عليها تصوّراً لدورِ المرأةِ، يتأسّسُ على نموذجِ خولةَ بنت ثعلبة التي جسّدتْ قيمَ الحقِّ والمروءةِ والرعاية، ولم يمنعْها المجتمعُ من الجِدالِ بالحُسنى أمامَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم.
إنّها مصدرُ إلهامٍ لكلِّ امرأةٍ تريدُ أنْ تكونَ على بيّنةٍ من أمرِها، وتحيا حياتَها على بصيرةٍ، لتكونَ بذلكَ أصدقَ تعبيرٍ عن التصوّرِ الإسلامي للمرأة، ونموذجاً يُحتذى لِمَن تريدُ أنْ تنهضَ بنفسِها ومجتمعِها من داخلِ منظومتِها الدينيةِ والثقافيةِ والحضارية.ولهذا اخترنا المجادِلة اسماً للمركز والمسجد.
وبذلك نأملُ أنْ يحقّقَ مركزُ ومسجد المجادلة أغراضَهُ وأهدافَهُ وأنْ تجدَ فتياتُنا ونساؤُنا فيهِ مساحةً للتعبّدِ والتعلّم، وللتطويرِ والإرشادِ واستنباطِ الحُلولِ من دَاخلِ الإسلامِ وليسَ من خارجِهِ.
وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت وإليه أُنيب.
والسلام عليكم ورحمة الله.